كان عام 1830 اخر سنة للوالي الشركسي دَاودَ باشا
وكانت اسوأ الاعوام في تاريخ العراق حيث شهد العراق فيها العديد من الكوارث ..
كان وباء الطاعون قد انتشر في بلاد فارس ذلك العام
.. ووصل الى بغداد نهاية شتاء 1830 .. وكان قد صدر فرمان من السلطان العثماني بعزل
داود باشا من الولاية وتعيين علي رضا باشا
واليا لبغداد ولكن انتشار الطاعون حال دون ذلك...
اخذ وباء الطاعون يحصد الأرواح بشكل مخيف بالعراق
ووصلت الأنباء الى بغداد عن قرى حصدت ارواح اَهلها جميعاً وقبائل لم يبقى لها
اثر..
نصح القنصل البريطاني المستر ريج الوالي داوود باشا ان يؤسس محجراً صحياً ..ووضع
طبيب القنصلية خطة للحد من انتشار المرض
وقد وافق داود باشا على الخطة لكن رجال الدين المتطرفين اصدروا فتاوى بحرمة الحجر الصحي كونها تتناقض مع الدين الاسلامي مما اضطر الوالي لإيقاف الاجراءات..
وقعت اول الاصابات في آذار1830 في الاحياء الفقيرة ومات فجاءة في يوم واحد خمسة أشخاص في بيت
واحد.. وسرعان ما انتشر الوباء في المنطقة بأكملها،وفي شهر نيسان استفحل الطاعون
وأصبح خارج السيطرة وكان الناس يموتون بالعشرات يومياً، وتفككت أوصال الحياة
اليومية وحل الصمت المروع محل العويل على الموتى، وكانت الجثث تشاهد في الطرق
والاسواق بلا دفن لان اخر من في الاسرة قضى نحبه..ولا تجد من يقوم بدفنها خوفاً من
العدوى..
بدء الناس بالهروب من بغداد وانتشرت
عصابات الاوباش والسكارى وكانوا لايتورعون عن دخول البيوت وسلب كل ماهو
موجود حتى الموتى..
ولما رأى القنصل البريطاني مستر ريج انه لافائدة من المحجر الذي اقامه حول مبنى
المعتمدية غادر بغداد الى البصرة ومعه
موظفوه.. فيما هرب الوالي داوود باشا وحاشيته الى بساتين الكاظمية حيث الهواء
النقي ورغم انه أصيب بالطاعون الا انه بقيّ على قيد الحياة..
لم يسلم من الطاعون الى بعض بيوت من النصارى
اقاموا حواجز حول احيائهم وقطعوا الاتصال بخارجها وكان معهم قِس مبشر إنكليزي ..
الكارثة الثانية حصلت في نفس ايام الطاعون هي ارتفاع
مناسيب دجلة بعد ذوبان الثلوج على الجبال
الشرقية وفيضان النهر حيث اكتسح السداد ليلة العشرين من نيسان وطغى الماء على على اغلب بغداد خاصة في جانبها
الشرقي وهلك في تلك الليلة مايزيد عن 15الف إنسان لم يستطيعوا الهرب ليلا حيث
تداعت اغلب الدور السكنية وسقطت على
سكانها وسقط جانب من سُوَر بغداد عند باب المعظم وهدمت تكية الدراويش قرب الشيخ عبد
القادر.... وفي الصباح انخفض منسوب الماء بعد تسربه الى مسارب اخرى ..
وفي كتابه
(مدينة الخلفاء) قدر الرحالة جيمس
ولستد والذي كان متواجدا حينها في بغداد
عدد المتوفين من الطاعون والفيضان بحوالي 100الف نسمة ..
في بغداد سوقيسمى سوق التجار و يعرفه كبار السن باسم السوق الجايف وعرف بهذا الاسم
لوجود مخفر للشرطة في داخل خان النبكة
والذي مازال ( الخان) قائما لحد الان ويسمى سوق النبكة " لوجود شجرة من السدر
" .. كانت تجمع جثث المتوفين
بالطاعون في هذا المخفر حتى اصبحت
جيفا وكانت الناس تتحاشى دخوله أو تدخله مسرعة لتجتازه باسرع ما يمكن..
وللطرافة ....يروي عالم الاجتماع العراقي المرحوم
الدكتور علي الوردي قصة طريفة عن أحد أجداده الذي كان شاهداً على هذا الطاعون
حيث كان يعيش وسط عائلة يبلغ عدد افرادها
عشرة ... وقد رأى في منامه في احدى الليالي أن 10 جنائز قد خرجت من هذا البيت فلما
انتشر الطاعون صاروا يتناقصون واحدا بعد واحد...ففي كل يوم يموت احدهم... والجد
يقوم بتغسيله وتكفينه ودفنه ...حتى ظل وحيدا.......فلما مات التسعة الباقون أدرك
أنه سيكون العاشر لا محالة.... والناس كانوا ، ولا زالوا للاسف ، يؤمنون ويصدقون
الخرافة والاسطورة والحلم واقوال الشيوخ....ولخوفه من أن يبقى دون غسل ولا تكفين
اذا ما مات لعدم وجود من يقوم بذلك... قام فاغتسل وارتدى الكفن ولف جسمه كالميت
تماماً .. ثم تمدد على ارضية الدار منتظرا ملك الموت... بعد ساعات من الانتظار دخل
الدار احد اللصوص... حيث يزداد نشاط اللصوص لانهم يتوقعون فراغ الدور نتيجة وفاة
اهلها او هروبهم خارج المدن... اقترب اللص من الجد... وحين شاهد الجثة المسجاة
اقترب منها... لكن الجد أحس بحركة غير طبيعية فقفز صارخا بوجه اللص الذي سقط من
فزعه ميتا ..و اكتمل العدد ( 10) ...وخرجت العشر جنائز كما في الحلم ...وادرك الجد
بما لا يقبل الشك انه سيعيش... فخلع الكفن ونام بهدوء ..